كانت أول جريمة سمعت بها ايام وصولي للالتحاق بالجامعة في 1987 فطيلة حياتي لم اشهد لله الحمد أو اسمع عن قتل ، فانواذيبو كانت مدينة وديعة مسالمة تستيقظ مع القطار و تنام معه لا يعكر صفوها إلا صفاراته او صفارات البواخر التي تغادر الميناء كأنما تلقي عليه التحية و الشكر على حفاوة الضيافة .
كانت حادثة مقتل الضابط المشهورة التي هزت العاصمة و ادخلتها في حزن بالغ أما الثانية فشهدتها مباشرة و زرت مسرح جريمتها في انواكشوط في صبيحة يوم من 1994 من مصدر خاص كان يعطيني الأخبار الأمنية خاصة وردني الاتصال حوالي السابعة صباحا ، فالهاتف الوحيد الذي اعطيه لمصادري على قلة الهواتف يومها ، كان في بيت قريب شاءت الأقدار أن أبيت فيه تلك الليلة ، حين خرجت سيدة البيت لتنادي علي متسائلة عمن يكون المتصل في هذه الساعة! ، تحدثت معه و انا شبه نائم ، قبل أن يصعقني بخبره ، اعطاني المكان الذي توجد به الجثة ، غادرت مسرعا فتحت المكتب الذي لا يبعد عني كثيرا ربما كيلومتر واحد او يزيد قليلا ،القمت المصورة فيلما جديدا من فئة 32 صورة و انطلقت ، كانت المدينة مزالت تحاول النهوض من نومها الثقيل حين وصلت لمقاطعة السبخة حيث وقعت الجريمة او اريد لها أن تكون في مرحلة ما منها ، عند تقاطع سوق المسروقات (التبتاب) و الحي كانت الجثة مرمية في اهمال على الناصية الثانية المقابلة لغرفة المولد الكهربائي كان يلفها لثام بألوان حزب الإتحاد من اجل الديمقراطية والتقدم ، توقعت انه تم رميها من سيارة مسرعة . وصلت للدكان المجاور سلمت عليه سألته إن كان قد وصل غيري قبلي ، فأكد أن لا أحد سوى سيارة للشرطة وصلت و غادرت دون أن تقوم بأي شي في اثناء الحديث وصل مفوض من الشرطة تبادلنا التحية اخرجت له بطاقتي و طلبت إذنا بالتصوير ، و أذن لي بكل أدب مع مراعاة عدم ظهور وجه الضحية وصلت دورية من الشرطة و غادرتُ مع المفوض وصلنا لمكتبه و طلب مني الإنتظار ليجري مكالمات اظنها كانت مع وكيل الجمهورية و الجهات الأمنية . ثم دعاني على كأس من الشاي و قطعة خبز تقاسمناها .
أكد لي أن الضحية صاحب سوابق معروف لدى الدوائر الأمنية و أنه بالأمس كان يحضر مهرجانا اظنه إن كنت اتذكر لأحد أحزاب المعارضة التي بدأت دورة الانقسام يومها ، في ملعب العاصمة و عندما سألته مستدركا إن كان للعمامة التي معه اي علاقة بالجريمة السياسية ، ابتسم مؤكدا أن العمامة التي يلتحفها لا علاقة لها بتاتا بالجريمة ، فهي ليست سوى لثاما مجانيا حصل عليه في سهرة حزبية او مناسبة . فالرجل معروف في اوساط الجريمة باحتراف النشل و مخدرات و بيع الدم !!!!!
التقطت جملة المفوض – ربما لأنها المرة الأولى التي يصلني فيها أن هناك سوقا لبيع الدم و المتاجرة به – حيث أكد أن المذكور ينشط ايضا في عمليات بيع الدم ، كما هو متوفر لدى الدوائر الأمنية ! كانت فعلا أول مرة اسمع عن هذا النشاط التجاري رغم الدعوات الكثيرة التي نسمعها لمطالبين بالتبرع بالدم ممن يدعون انهم ضحايا في المستشفيات و ذوي حاجات و حتى من بنك الدم . الذي اتذكر انه ثارت حوله الشبهات كثيرا في تلك الفترة .
عدت لمكاتبنا في السفير هي “مكاتب” متواضعة من غرفتين و مرافق بسيطة ،خلف شارع الحلاقيين فتحت الباب و دلفت لغرفة التحرير التي يتقاسمها مكتب صغير جدا تعلوه قطعة قماش حريرية حمراء هي جزء من القطعة الكبيرة التي تعلو طاولة التحرير . جلست الف الفيلم لأخذه للتحميض .
ثم عدت لاكتب المعلومات التي تحصلت عليها و غادرت للمستشفى الوطني حيث يمكنني التقاط خيط بيع الدم حين وصلت للمستشفى خطرت لي فكرة الحصول على دم للبيع بدأت بالحراس و سؤالهم عن طريقة للحصول على دم للبيع لحالة مستعجلة ، لمحت في عيونهم الخوف و الطمع وانهم يعلمون عن شيء خطير يحصل هناك لكنهم لا يريدون التورط معي فقدت كل السبل .
عدت ادراجي حوالي الساعة الحادية عشرة ، فجأة جأتني الفكرة أن اتواصل مع مصدري فربما لديه ما يساعدني في الموضوع الذي اريد الوصول لمعلومات عنه ذهبت مباشرة إليه حين اثرت الموضوع له سكت طويلا ثم اردف لا انصحك بتاتا بالتحقيق في هذا الموضوع قلت له ليس تحقيقا هو ربط للمعلومات فقط ، فهل يمكن أن تساعدني أو تدلنى على أحد العاملين في بيع الدم اعطاني اسما لممرض في المستشفى الوطني ، وصفه لي بدقة خشية أن اتحدث مع غيره و أكد علي ألا أتي على ذكره نهائيا و أن علاقتنا المستقبلية مرهونة بالموضوع حين وصلت للمستشفى الوطني سألت عنه حين تأكدت انه ليس ضمن المواصفات التي أمامي فدلوني عليه .
قلت له إني ابحث عن دم للبيع لحاجة مريض لدي اليه و بطريقة توحي أن لدي معلومات كاملة عنه حتى ربما اوحيت له أننا تعاملنا قبل اليوم كان في شكله العام نظيفا و مرتبا تلوح عليه علامات مستوى من الثراء و الإرتياح المادي لا تتناسب مع عمله كممرض وربما يقطن في ارقى مناطق العاصمة انذاك .
أخذ بيدي لناحية في المستشفى كان مرتبكا قليلا احسست بذلك وهو يصر على مسك ذراعي و نحو نعبُر الممر للخارج حين توقف كان كمن يلومني على اثارة الموضوع في المستشفى ، هونت عليه الموضوع ، لكن المفاجأة انني احسست في حديثه انه يتوقع بيع كمية كبيرة ربما . تريثت قليلا حتى ادرك كنه مشاغله سألني عن مصدر طلبي (كان الرجل يسأل عن جهة الطلب التي فهمت انها ربما تكون جهات خارجية و منظمة تتجار في الدم ) و رددت عليه اني شخصيا المهتم وحدي بالموضوع .
عادت له السكينة مجددا كأنما خرج من بطن حوت قال إن كانت مسألة مساعدة فلا مشكلة اتصل بي في المساء و سأوفر لك علبة مجانا حين هم بالمغادرة ، سألته هل تعرف فلان الذي قتل اليوم ؟
كانت تلك قاصمة الظهر عاد لحالة الخوف التي عترته أول ما حدثته ؟ و سألني بطريقة هستيرية و هل تعرفه ؟ قلت لا انا صحفي و ابحث عن خبر فقط او معلومة !! ماذا في الأمر أكد لي انه لا يمكن نهائيا أن يتحدث عن الموضوع و انه ينصحني بالابتعاد عنه . ؟ نظر الي كمن يترجاني “لعت ادور الدم حق ، جيني الدحميس الساعة السادسة ” قلت اريد المعلومات فقط ! قال تعالي لي المساء ، سأكون تحت السلم الداخلي في انتظارك .
عدت لمقيل متأخر ترافقني اعواد قليلة من مالبورو و أقل من 1000 اوقية وصلت لمقيل سريع و بدأت التجهيز للعودة . عدت للمستشفى قبل الموعد و جُلت في كل العنابر لعلي أجده و احظى بجلسة اطول و معلومات أكثر .
وصلت السادسة و لم يظهر نهائيا فموعدنا كان عند السلم الداخلي للمستشفى ، جلت في المستشفى و مررت على كل الأمكان ، ثم بدأت بالسؤال عنه . اكد لي من سألتهم انه نزل من دوامه و أن موعده المعتاد للعودة هو الغد . اكملت عقارب الساعة السابعة دورتها دون ان يظهر .
كان موعدنا على الظهور بعد يومين فقط فغالبية المواد الثابتة و المقالات و اخبار الإسبوع ما بعد آخر ظهور ، موجودة على أجهزة “اخبار الأسبوع ” و لم يبق الكثير ليكتمل العدد . صممت على الانتظار رغم انني بدأت كتابة التحقيق و اثارة الأسئلة حول علاقة تجارة المخدرات و تجارة الدم و عصاباتهما التي بدأت يتحدث عنها في انواكشوط .
كنت في مكاتب السفير ، شباب يدخلون و يخرجون من المتعاونين معنا يومها و اصدقاء من خارج الحقل يدورون قبل ساعات المقيل ، حين وقف فراش الجريدة و نادى علي “هون واحد واقف القدام يدورك ” قلت له لماذا لا يدخل ، قال يريدك في الخارج .
خرجت من الباب لأكون مباشرة على خط شارع تتقاسمه المحلات التجارية و محلات الحلاقة و استندرات ، و عند الباب وجدت الرجل الملثم ينتظرني سلم علي و عرفته من صوته ! لقد كان مصدري ، سألته مابك ؟ قالي لي هل وجدت فلان (نسيت الإسم طبعا ) قلت نعم لكنه انسان غير جدير بالاحترام اعطاني موعدا و اخلفه و اضاع علي وقتي . قال ماذا كان يريد منك و انتبهت جيدا لردي عليه . ؟ قلت لا أدري هو طلب مني الحضور في السادسة و جئت لكنه لم يكن هناك .
و القى الي النبأ لقد وجدوه اليوم قرب مزراع (لحرايث ) السبخة مقتولا ؟ اسقط في يدي ! كيف قتل و لماذا ؟ قال لا أدري لكن انصحك إن كنت قد توصلت لأي معلومات منه ان تعرف انك مهدد !! طلب مني عدم التواصل معه حتى يبادر هو بذلك و عدت للمكتب !! لم اكن ادري من اين ابدأ و لا من اين انتهي !! و لا حتى أن أحدث أحدا بالموضوع الذي حاولت كما هي عادتي ان اتكتم عليه حتى آخر لحظة .
قررت أن اعيد الموضوع بطريقتي الخاص و ان اتجنب اي ذكر للضحية الأخير او اللقاء به .
كتبت عن القتيل تاجر المخدرات المسجى في لثام بشعار حزب UDP و ان اثير أسئلة أخرى ، قد تتبادر لذهن أي من القراء و أن احاول ربطها جميعا لتضاف لصورة الضحية على الصفحة الأولى من العدد .
طيلة شهر أو اكثر كانت كل حواسي تعمل بطريقة لاإرادية ، مرات أشك أن لدي عيونا في قفاي تعدد خطوات السائرين خلفي و تحسب بدقة ارتفاع معدل الأدرينالين بين وقع الخطى و دقات القلب لأقيس مدى التهديد الذي يلاحقني .
لا اكتمكم سرا ، لقد تعرضت لكوابيس عديدة لكنني علمت سريعا أنني لا يمكن أن أخوض معركة لا أعرف جنودها و لا اسلحتهم و أن المتاح لدي هو فقط ما قمت به و أن انزع كل وهم قد يعكر صفو حياتي وأن اواصل عملي و حياتي كما هي دون ادنى تغيير .
قد تتهمونني بالجبن و اعذركم في ذلك ، فمهمتي كصحفي أن اطلع الناس على ما توصلت إليه !
لقد فكرت في هذا كثيرا فطيلة الساعات التي تفصلني عني وضع اللمسات الأخيرة على الماكت ، كنت افكر في مسؤولياتي كصحفي و في علاقتي بالقارئ بل و حتى في أمن بلدي و لكنني قررت في النهاية انني لم اتوصل الا لتلك الأسئلة التي تثير اي صحفي شاب يضعه اقدامه على درب سنواته الأولى في شح من الوسائل و الأدوات و المحفزات سوى ايمانه بالعمل الصحفي و الانتصار على كل ذلك بأي طريقة . أما فيما يتعلق بمعلومات قد تفيد الأمن فقد التقطت الأمر منهم و لم اتوصل للكثير عنه .
سوى أنني ربما كنت هدفا حقيقيا على لائحة الانتظار .
بقلم/ الصحفي عبد الله ولد أبو رئيس تحرير صحفية السفير سابقا .