أفول وسقوط الوُعّاظ
مع مطلع الألفيّة كانت طبقة الفقهاء قد فقدَت شرعيتَها في تفرغ زينة. وكان لا بدّ من استقدامِ طبقة جديدة نقيّة. كان قُدماء الوُعّاظ، تماماً كقُدماء المحاربين، قد فقدوا قيمتَهم، لأنّ الطبقة المخملية مسحت بهم أطنابها مِراراً واستخدمتهم كثيراً في تشريع الزيجات السريّة وتشريع زيجات التحليل والتستّر على الأسَر الموازيّة وتعدّد الزوجات السرِّي، ناهيك عن تشريع بيزنس الطبقة الحاكِمة وبنوكَها الإسلاميّة والاستفادة منهم في تشريع التهرّب الضريبي والتحايل والكَنز والجباية والنخاسة وإقامة القُدّاس على “صالحي” الطبقة. للأمانة كانت الطبقة المُترَفة ما زالت تستخدِم هؤلاء. ولكنّها لم تعد مُقتنِعة بوعظِهم، لمعرفتِها بشراكتِهم معها. علاوة على هؤلاء فإنّ هؤلاء قد أصبَحوا في هذه الأثناء جزءاً من الطبقة الحاكِمة نفسها. وصارت لهم نفس البُنية: أجور متدفِّقة في مناصِب وهميّة وفدادين في ضاحية العاصمة وكان أولادُهم وبناتُهم قد دخلوا في الدورة الفضائحيّة للطبقة السائدة.
أما الطبقة الصاعِدة من الوُعّاظ فكانت مختلِفة. كانت بالأساس مجموعة من أساتِذة التربيّة الإسلامية وحملة باكلويا الآداب الأصليّة والقُراء والمُنشِدين والمؤذّنين الذين ازدهروا في الكَزرات إضافة إلى بعضِ الحنابِلة الذين عادوا من الخليج باللطنة النجدية واحتقار الأشعريّة والتصوّف. كانت طبقة متمحظِرة، ولم تكن بالمرّة متمحصِرة. فبعكس طبقة الفقهاء فإنّ أفرادَها لم يهتمّوا بالأتيكيت ولا باللباقة السياسية وكانوا يريدون تطبيق الحدود بدون مُقدِّمات وكانوا يُكفِّرون الدولة ويغضّّون أبصارَهم عن نساء الطبقة السائدة ولا يتكلّمون معهن إلاّ من وراء حجاب. وكانوا ينتقِدون البضاعة ويحتقِرون الموضة. وكانوا ما زالوا يتكلّمون عن الشيطان باعتبارِه عدُواً يومياً. الفقهاء كانوا قد أهملوا الشيطان وحرّروه وتركوه لحال سبيله فذهب عنهم إلى وول ستريت. أما القُرّاء فكانوا يرونَه أبد الدّهر في كلّ مكان: فوق القمر وفي بيت أبي سفيان وبالتأكيد في البرلمان وغُرف النوم والمقاعِد الأمامنة للسيارات وبين أسطر العقود والبيوع.
لم تستطِع الطبقة المخمليّة مقاومة إغراء القُرّاء. فبالنهاية هذه كانت طبقة زاويّة وما زال لاوعيها مهووساً بالفتوّة والكاريزما الدِّينية. وهؤلاء القُرّأء كانوا كبوذيي ميانمار: مصلوعي الرؤوس، مفتولي الملابِس، غير مهتميين باللذة. وكانوا يجلُدون المظاهر اليوميّة. وكانوا يحرُسون السماء، مانِعين الصواعِق من السقوط على رؤوس الشعب. افتَتنت بهم الطبقة. كانوا يقرأون القرآن بخشوع. ويشتمون الثراء على المنابِر. وكان الأغنياء يتسابقون إلى مساجِدِهم في الجمعة والتراويح. وكانت صلواتُهم صلواتُهم طويلة، وإن أنيقة. بعكس صلوات الفقهاء السائدين، الذين كانوا يشرُدون في مداخيلِهم ومصاريفِهم ويُكثِرون من سجود السهو وأخطاء التلاوة. وبسُرعة أمكن طرد الطبقة العتيقة بالشهُب اللازبة في أعقابِها. مع نهاية العصر الطائعي تمّ تتويج طبقة القُرّاء وتسرح طبقة الفقهاء.
اليوم يبدو أنّنا على أعتاب عصرٍ فقهي جديد. لأنّ الطبقة الدِّينية المسيطرة منذ أغسطس 2005 قد أصبَحت متجاوزة، لانشغالِها في القتل الأوديبي لأسلافِها. اليوم هي تواصُل عملَهم بإخلاص: تُشرِّعُ التحايلات والتفكّكات الأسريّة والأنساب الشريفيّة وأصبحَت هي نفسها داخلة في سلسلة من الفضائح، كما أنّها أصبَحت تمارِسُ التفتفة والنفث في العُقَد ناهيك عن ارتباطِها برؤوس الأموال العربيّة وبأمن الدولة. وغني عن القول إنّها صارت داخِلة في عِداد الطبقة المسيطِرة من حيث الفدادين والفِلَلْ ومن حيث دخول أبنائها في عِداد الطبقة المخملية وانخراط الجميع في الحياة الفضائحية والدسائسية للقصور.